• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسحار رمضانيّة/ج12

نــزار حيدر

أسحار رمضانيّة/ج12

(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

   هذا يعني أنّ في كلِّ مجتمع من المجتمعات أمة من الناس لا شغل لها إلا تثبيط المصلحين، فإذا كتب أحدٌ ينبّه هاجموه، وإذا خطب آخر محذّراً اتّهموه، وإذا انتقد ثالث طعنوا في نواياه، وهكذا، فهم لا يحرّكون ساكناً، ولا يحاولون التغيير والإصلاح، إلا انّ ألسنتهم طويلة ضد كلّ من يحاول ذلك، وشعارهم دائماً (ميفيد) فلا الكلام ينفع، برأيهم، ولا النقد يفيد ولا النصيحة لها آثر، فما العمل إذن؟ هل نجلس في بيوتنا ونضع رجلاً على رجل بانتظار المعجزة؟ هل نصمتْ بانتظار المخلّص الموعود؟ هل نتغافل عما يُراد بنا بانتظار أن تنزل على أعدائنا صاعقة من السماء فتقتلهم وتخلّصنا مما نحن فيه؟ ألا ترون انّ حالنا يزداد سوءاً يوماً بعد آخر؟ هل تريدون أن نكون "كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!" على حد قول أمير المؤمنين (ع)؟!.

   إنّ كلَّ عمليات التغيير التاريخية تبدأ بكلمة لتتبلور في فكرة لتتحول إلى مشروع فيعمل من أجل تحقيقه رجال قليلون يؤمنون بالمشروع ويستعدّون من أجل تحقيقه للتضحية، فلمّا يشعر المجتمع بصدقية المشروع  وإخلاص رجاله يلتحقون به ليتحقق التغيير التاريخي المرجو.

   وهذه هي حقيقة ما جرى في كل الأمم عبر التاريخ، ولم يشذ عنها الحدث التاريخي العظيم الذي شهدته الجزيرة العربية في البعثة النبويّة الشريفة، فالتغيير بدأ بثلاثة "رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا" على حد قول أمير المؤمنين (عليه السلام)، ليتحوّل التغيير إلى سيل هادر غيّر مجرى التاريخ، ولو انّ رسول الله (ص) كان قد أصغى للنفر الذين تحدثت عنهم الآية المباركة أعلاه، أو كما يصفهم القرآن الكريم بقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) لما استقر للدين أمرٌ، ولما كنا اليوم مسلمين.

   كذلك، فانّ التغيير التاريخي العظيم الذي شهدته أوربا قبل عدة قرون، ليستقر بعد الحرب العالمية الثانية، هو الآخر بدأ بكلمة قالها فيلسوف فتحولت إلى فكرة تبناها مفكر لتتحول إلى مشروع عٓمِلٓت على تحقيقه مجموعة صغيرة من العقلاء والحكماء الذين أبدوا استعدادا منقطع النظير في الدفاع عما آمنوا به وصل إلى حد سوقِهم إلى مقاصل الإعدام بعد محاكم تفتيش صورية حكمت عليهم بالإعدام بتهمة محاربة الله تعالى وأدواته في الأرض، الكنيسة، على حد زعمهم، ولو انهم كانوا قد أصغوا الى كلام المثبّطين وصدّقوا ان لا شيء ينفع في تغيير الواقع، لما كانت أوربا اليوم على ما هي عليه، ولظلّت في ظلماتها إلى الآن.

   لذلك :

   الف: يجب أن لا نصغِ أبداً إلى الذين يقولون (ميفيد) فلقد اثبتت تجارب الإنسانية بأنّ الكلام ينفع والفكرة تنفع والرأي ينفع والنقد ينفع والموعظة تنفع وكلّ شيء ينفع.

   انهم ينفون التأثير من دون أن يقدموا أي بديل، وكأنهم يريدون نحرنا بسهام اليأس والقنوط.

   نعم، قد لا يترك الكلام أثره في اللحظة، فقد يستغرق بعض الوقت، ولكنه في النهاية سينفع بالتأكيد، فلماذا ينفع في كلِّ مكان ولا ينفع في العراق مثلاً؟ هل انّ عقولنا تختلف عن عقول الآخرين؟ أم انّ آذاننا لا تستوعب الحديث؟ أم ماذا؟.

   باء: ينبغي أن لا نيأس إذا رأينا الناس لا تصغي إلينا، أو انّ المسؤول يستهزيء بما نقول ونكتب، فالأمر يحتاج إلى مثابرة ومواصلة واستمرارية حتى يؤتي الكلام ثماره، ولعل في قصة نبي الله نوح (عليه السلام) مع قومه خير درس وعبرة وانموذج يحتذى، فعلى الرغم من انهم واجهوه بالضد وبكلِّ الطرق، إلا انه ظل يواصل دعوتهم للحقِّ، كذلك بكلِّ الطرق، دون كلل أو ملل، حتى قضى الله أمراً كان مفعولا.

   يقول القرآن الكريم راسما تلك الصورة بقوله: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا).

   علينا أن نغيّر الوسائل والأدوات بين الفينة والأخرى، وكذلك الأساليب وطريقة العرض. فالظروف تتغيّر، كما انّ الحاجات والأوليّات هي الأخرى تتغيّر.

   جيم: نحن بحاجة إلى أن نُحسِن الظن بالناس والمجتمع، فليس كلّهم لا يقرأون أو لا يتأثرون أو لا يهتمون، ولذلك يجب أن يكون عندنا أمل في التأثير، ثم نعمل على زيادة نسبته شيئاً فشيئاً.

   دال: يجب أن نتعامل مع الكلمة كمسؤولية، فنعرف كيف نختارها؟ ولمن نقولها؟ وأين نقولها؟ وكيف نقولها؟ بمعنى آخر، فانّ علينا أن نجتهد في قول الكلمة، أي نبذل قصارى جهدنا ونحن نسعى لقولها من أجل أن تغيّر، فإذا أثّرت فبها، وإن لم تؤثر فلقد فعلنا الذي علينا، واسقطنا الواجب الوطني والديني والأخلاقي الذي كان يجب علينا أن نتصدى له، وليس علينا بعد ذلك أن ننجح، وصدق الشاعر الذي قال:

   على المرء أن يسعى بجُهده

                     وليس عليه أن يكون موفقا

   وكلّ رمضان وأنتم بخير.

 

ارسال التعليق

Top